قصائد للشَّاعر الإيطالي سالفاتورِه كوازيمودو
Salvatore Quasimodo (1901-1968)
سالفاتورِه كوازيمودو في سطور:
وُلِدَ كوازيمودو في 20 آب/ أغسطس 1901 في مدينة موذِقة (موديكا بالإيطاليَّة) الواقعة جنوب شرق جزيرة صقلية. بدأ في عام 1916 دراسة الرِّياضيات والفيزياء في المعهد التقني بباليرمو، ثمَّ سافر بعد سنةٍ من ذلك إلى مسِّينا ليكمل دراسته هناك، وليحصل على الدُّبلوم سنة 1919. في نفس العام انتقل إلى روما ليكمل دراسته الهندسيَّة، ولكنَّ ظروفه المادِّيَّة الصَّعبة أرغمته على ترك الدِّراسة ليعملَ كتقنيٍّ في شركة بناء، ثمَّ كموظَّفٍ في أحد المستودعات الكبرى، وكان يستغلُّ أوقات فراغه في كتابة الشِّعر ودراسة الإغريقيَّة واللاتينيَّة. في عام 1929 انتقل إلى فلورنسا حيث ظهرت أعماله الشِّعريَّة الأولى في مجلَّة سولاريا Solaria الأدبيَّة التي كانت تصدر هناك، أمَّا أولى مجموعاته الشِّعريَّة "أمواهٌ وقارَّات" فصدرت سنة 1930، لتليها سنة 1932، بعد انتقاله إلى جنوى، مجموعتُه الثَّانية "مزمارٌ مغمور". بعد ذلك بسنتين انتقل كوازيمودو إلى ميلانو ليتفرَّغ كلِّيَّاً للشِّعر والتَّرجمة، حيث صدرت في عام 1940 ترجمته الرَّائعة للأناشيد الإغريقيَّة، وفي 1941 طُلِبَ منه، لِما حازه من شهرةٍ واسعة، تدريس الأدب الإيطالي في المعهد الموسيقي بميلانو. بعد اندلاع الحرب العالميَّة الثَّانية تحوَّل أسلوب كوازيمودو الشِّعري من الهرمسيَّة (الإبهاميَّة) - والتي كان آخر دواوينها "قصائد" 1938 و"فجأةً إنَّه المساء" 1942 - إلى بساطة اللغة، حيث غلبت على أسلوبه الجديد النَّظرةُ التَّأمُّليَّة في الحزن والدَّمار اللذَين جلبتهما الحرب على الإنسان، وهذا ما بدا جليَّاً في جميع دواوينه اللاحقة: "يوماً إثر يوم" 1947، "الحياة ليست حلماً" 1949، "الأخضر الحقيقيُّ والزَّائف" 1956، "أرضٌ استثنائيَّة" 1958، و"خُذْ واعْطِ" 1966. حصل على جائزة سان بابليا عام 1950، وفي عام 1953 تناصف جائزة إيتناورمينا مع الشاعر الويلزي ديلان توماس. في عام 1958 حصل على جائزة مايريجيو، وحصل على جائزة نوبل عام 1959. لِكوازيمودو - إلى جانب نشاطه الشعري – إسهاماتٌ فلسفيَّة، ومِن كتبه في هذا الحقل : "الرُّوح فعلٌ خالصٌ" 1937، "مذهب المنطق كنظريَّة معرفيَّة" 1946، و"فلسفة الفن" 1949. قضى كوازيمودو آخر سنوات حياته مسافراً بين أوروبا وأميركا لعقد مؤتمراتٍ وقراءاتٍ لقصائده التي كانت قد تُرجمت إلى عدَّة لغات. في سنة 1968، أثناء وجوده في أمالفي أصيب بسكتةٍ دماغيَّةٍ قضى على إثرها نحبَه بعد بضعة أيَّامٍ في مستشفى نابُّولي، حيث نُقل جثمانه إلى ميلانو لِيوارَى الثَّرى في مقبرتها التَّذكاريَّة.
* * *
يمكن تقسيم تجربة كوازيمودو الشِّعريَّة إلى ثلاث مراحل أساسيَّة، تأثَّرتْ أولاها بالاتِّجاهات الشِّعريَّة التي كانت سائدةً آنذاك، من مدرسة باسكولي إلى الرَّمزيَّة، ومن مدرسة دانُّونتسو إلى الغروبيَّة [مدرسة شعريَّة تمزج بين السُّخريَّة والكآبة]، ومن أبرز موضوعات هذه المرحلة: الشَّغف بحبِّ الأرضِ الصِّقِلِّيَّة؛ السَّوداويَّة؛ واستذكار الطُّفولة. ههنا يترك الشَّاعر لعواطفه أن تنبجس بدفقٍ صادقٍ وصريحٍ، ولكن بلغةٍ هي أقرب ما تكون إلى الزُّهد. المرحلة الثَّانية هي مرحلة "الهرمسيَّة" حيث هيمن على قصيدة كوازيمودو آنذاك الاهتمام بالشَّكل والصُّورة، وجاءت قصائده بسيطةً وقويَّةً في نفس الوقت، وكان لافتتانه بالأناشيد الإغريقيَّة وانكبابه على دراسة اللغات الكلاسيكيَّة في تلك الفترة الدَّور الكبير في تمكينه من التَّوفيق بين متطلَّبات القصيدة الحديثة وبين الالتزام بوضوح العبارة الشِّعريَّة وسهولتها. أمَّا المرحلة الثَّالثة فهي تلك المنبثقة من آلام الحرب وويلاتها، حيث لا يمكن للقصيدة أن تبقى حبيسة عزلتها المثاليَّة، وقد عبَّرت قصائد كوازيمودو في هذه المرحلة عن جنون الحروب ولاصوابيَّتها، وعن ضرورة إصلاح الإنسان، لكن ما يؤسَف له في هذه المرحلة هو أنَّ انشغال قصيدة كوازيمودو في محاولة أن تبدو حاسمةً وقاطعة جعلها تسقط في أسلوبٍ هو أقرب إلى البلاغة الخطابيَّة منه إلى الشِّعريَّة.
النُّصوص:
[من مجموعة "أمواهٌ وقارَّات" 1930]
ملاذُ طيورٍ ليليَّة
في الأعلى ثمَّة صنوبرةٌ مُعْوَجَّة؛
تتلبَّثُ مصغيةً إلى الهاوية
بجذعِها المنحني كقوسِ نبَّالٍ.
إليها تأوي طيورٌ ليليَّةٌ،
فتهدرُ في السَّاعةِ الأكثرِ عُلْواً
بخبطِ أجنحةٍ عجول.
ثمَّة الآن عشٌّ لقلبي
المدلَّى في الظَّلام، وثمَّة صوت؛
الليل برمَّته يتلبَّث مصغياً.
*
وفجأةً إنَّه المساء
ما مِن أحدٍ إلَّا ومستوحدٌ فوق قلبِ الأرض
المطعونِ بشعاعِ شمسٍ:
وفجأةً إنَّه المساء.
*
أرضٌ
ليلٌ، ظِلالاتٌ هامدة،
مهدٌ مِن أثير،
تدركُ الرِّيحُ قلبي إذ أجتالُ فيكِ،
ويتنشَّق البحرُ الأرضَ
عندَ ضفَّةٍ حيث تنشدُ سُلالتي
للأشرعةِ، وسلالِ الصَّيدِ،
لاستفاقةِ أطفالٍ قبلَ الفجر.
جبالٌ قاحلة، سهوب عشبٍ من قبلِ حتَّى
أن تتخيَّلَ أسراباً وقطعاناً
كنتُ أحفرُ في باطن آلامِها.
*
إيابات
في ساحةِ نافونا، في ليلِها، على رخامِها
كنتُ أستلقي متحيِّناً الصَّمتَ،
وعيناي توحِّدان النُّجومَ
بزُخرُفِ الأعمدةِ المستقيم والملولَب،
النُّجومَ ذاتَها التي كنتُ أقفوها طفلاً
مطروحاً على حصباء نهر بلاتاني
متهجِّياً في العتمةِ مقاطعَ صلاة.
بيدين متصالبتين تحت رأسي
كنت أستذكرُ الإيابات:
عبق الفاكهةِ المجفَّفةِ على الحُصُر،
وزهرِ المنثورِ، والزَّنجبيلِ، والخزامى؛
متوهِّماً أنَّني أقرأ لكِ، لكن بتلكُّؤٍ،
(إذْ نحن، أنا وأنتِ، يا أمَّاه، في ركنٍ مظلَّلٍ)
أحدوثةَ المبذِّر الرَّمزيَّة،
تلك التي أبداً ما فتأت تطاردني في الصَّمت
مثلَ إيقاعٍ يندلعُ دفقاً
بلا رغبةٍ فيه.
ولكنْ غير مأذونٍ للموتى الإياب،
وما مِن وقتٍ، ولا حتَّى لأجلِ الأمِّ، عندما
تنادي الدَّربُ؛
إذَّاك أعاودُ الرَّحيل، مستغلِقاً على الليل
كمن يخشى لزومَ الفجر.
الدَّربُ أعطتني الأغنيات
الخبيرة بأحوال القمحِ إذ ينتفخ في السَّنابل،
وبالزَّهرِ إذ يبيِّضُ حقول الزَّيتون
وسطَ زرقةِ الكتَّان والنَّرجسِ البرِّيِّ؛
أعطتني رنَّاتِ الغبارِ المدوِّمِ،
دندناتِ الرِّجالِ وقعقعةَ المقطوراتِ
بمصابيحِها التي تتهزهزُ بشحوبٍ
وبالكاد لها ضياءُ قُطْرُبٍ.
* * *
[من مجموعة "مزمارٌ مغمور" 1932]
مزمارٌ مغمور
أيُّها الألمُ الشَّحيح، أرجئ هِبَتَكَ
في هذه السَّاعة
ساعةِ تَخلِياتي المتأوِّهات.
مزمارٌ متجمِّدٌ يتهجَّى
غبطةَ أوراقٍ أبديَّة، لستُ أنا
مَن خطَّها، ثمَّ ينساها؛
في صدري يهبط المساء:
الماءُ يندثرُ
على يديَّ المعشِبتَين.
أجنحةٌ زائلةٌ ترتجف
في سماءٍ واهنة: قلبي يهاجرُ الآنَ
وأنا أرضُ بَوَارٍ،
أيَّامي كلُّها خرائب.
*
غاباتٌ تغفو
يا رحمَ الحبِّ والولاداتِ المَحُوْلَ،
منذ سنين طويلة
وأنا أبكيكِ ههنا، مهجوراً.
تغفو عندكِ غاباتٌ
مطمئنَّةً إلى أخضرِها، وإلى رياحِها،
تغفو سهولٌ كبريتُها
ثابتٌ
كصيفِ الخرافات.
لمْ تلِجِيني لكي تَحْيَي فيَّ،
يا فأل آلامي الباقية.
على الأمواه تُحتضَرُ الأرضُ
وفي الأنهارِ أيدٍ عتيقةٌ
تقطفُ البُرديَّ.
لا أُحْسِنُ كرهكِ: هكذا هو خفيفٌ
قلبي المجبولُ مِن عاصفة.
* * *
[من مجموعة "إيراتو وأبوللو"1 1936]
مقاطع إلى إيراتو
إليكِ ينحني القلبُ في عزلتِه،
يا منفى أحاسيسَ مبهمة
فيه يتحوَّلُ ويولَعُ
ذلك الذي حسبناه أمسَنا،
وهو الآنَ مطمورٌ باللَّيل.
أشباه دوائر أثيريَّة تشعُّ
على وجهِك؛ هكذا تنبلجين لي
كلَّما أمضَّني هاجسٌ
فأُضاءُ بكِ، بالفمِ المهيبِ
تحتَ بريق ابتسامة.
لكي أنالَكِ أضيِّعُكِ،
ولا آسَى لذلك: لا تزالين بهيَّةً،
ساكنةً في هدنةِ تهجاعٍ مستعذبة: كما لو أنَّ
سكينةَ الموتِ هي رأسُ الغبطة.
*
أبوللو
الذُّرواتُ في حالِكِ نُعاساتِها
تضَّجعُ خائرة القوى.
هي ذي تولَدُ
ساعةُ الموتِ الملآنة، يا أبوللو؛
لا تزال أعضائي متراخية
وقلبي يثَّاقلُ غافلاً.
يداي مبسوطتان إليك
من جوفِ جِراحٍ منسيَّة،
أيُّها المعشوق المهلِك.
*
أنابو2
عند ضفافِك أصغي إلى الماءِ المنسابِ كاليمام،
يا أنابو؛ في الذَّاكرة يئنُّ
من الوجدِ
حفيفُ وُريقاتٍ مفخَّم.
يصعدُ شهيَّاً إلى الضِّفَّةِ
بعد لهوٍ مع الآلهة،
جسدٌ طافحٌ غُلمةً:
الوجه متحوِّلُ الملامح،
وعلى قصبة السَّاق في الضَّوءِ الرَّجراجِ
تنتفخُ خثرةٌ نباتيَّة.
مائلاً على هيجاتٍ عميقة
يوزِّعُ كلَّ طَورٍ ودَور،
حاضناً موتَه مثل بذرةٍ زفافيَّة.
- ماذا صنعتَ أنتَ بمدِّ الدَّمِ وجَزرِه،
أيُّها الإله؟- ليس إلَّا دورةَ إياباتٍ
عبثيَّةً فوق لحمِه،
الليلَ وعُبابَ النُّجوم.
يهزأ الإنسانُ الجوهرُ العقيم.
في النِّسيانِ الطَّريِّ المسدَلِ
على دُهمةِ العشبِ يستلقي:
المعشوقة ظلٌّ يندسُّ
في ضلعِه.
حيواناتٌ طيِّعة،
بحدقاتٍ أثيريَّة،
تشربُ في حلمٍ.
* * *
[من مجموعة "يوماً إثر يوم" 1947]
على غصون الصَّفصاف
وكيف كان في مُكنتنا أن نغنِّي3
والقدمُ الغريبةُ فوقَ القلب،4
وسط الموتى المتروكين في السَّاحات5
على العشبِ الذي صلَّبه الصَّقيع6، تحت ثغاءِ
الصِّبيةِ المتفجِّع7، والعويلِ الأسودِ
لأمٍّ تهرعُ نحو ابنها
المصلوبِ على عمودِ التِّلِغراف8؟
على غصون الصَّفصاف علَّقنا نحن أيضاً
قياثرَنا نذوراً9،
فتمايلت واهنةً في الرِّيح المكروبة10.
*
يوماً إثرَ يوم
يوماً إثر يوم: كلماتٌ ملعونةٌ والدَّمُ
والذَّهب. أميِّزكم يا شِباهي، يا وحوشَ
الأرض. عند أنيابكم سقطت كلُّ رأفةٍ،
والصَّليبُ اللطيفُ هجرَنا. لم يعد مأذوناً لي
أن أعودَ إلى نعيمي الخرافيِّ.
رفعنا قبوراً على شاطئ البحر، في حقولٍ ممزَّقة الأحشاء،
لكن ما من مدفنٍ واحدٍ دمغَ الأبطالُ رخامَه.
أكثر من مرَّةٍ لها الموتُ معنا:
في الرِّيح يُسمَعُ رجيفُ وُريقاتٍ رتيبٌ،
كما لو أنَّ غُرَّةً11 مستنقعيَّةً صعدَتْ مع ريح المتوسِّطِ
من أرضِ بَوارٍ إلى ما فوقَ الغمام.
*
إنسانُ هذا العصر
لا زلتَ ذلك الذي مِن حجرٍ ومِقلاع،
يا إنسان هذا العصر. كنتَ في هيكلِ المحرِّك12،
مع الأجنحة الخبيثة، ومِزْوَلاتِ الموت،
رأيتُك- داخلَ عرباتِ النَّار، على المشانقِ،
على عجلاتِ التَّعذيب. رأيتُك: كنتَ أنتَ،
بما تملك من معرفةٍ مُحكَمةٍ قانعةٍ بالهلاك،
مِن غير حبٍّ، من غير مسيح. لقد قتلْتَ ثانيةً،
مثلما هو دأبك دوماً، مثلما قتلَ الآباءُ، والحيواناتُ
التي رأيتُها فيكَ أوَّلَ مرَّةٍ.
وهذا الدَّمُ يفوحُ كما في ذلك اليومِ
إذْ قالَ الأخ لأخيه:
"فلنمضِ إلى الحقول". ذلك الرَّجْعُ الباردُ، اللزجُ،
انتهى إليكَ، إلى أعماقِ فجرِك.
انسوا، أيُّها الأبناء، غيومَ الدَّمِ الصَّاعدة
من أديم الأرض، انسوا الآباء:
فقبورهم تغوصُ في الرَّماد،
الطُّيورُ السُّودُ، والرِّيحُ، تغلِّفُ قلوبَهم.
* * *
[من مجموعة "أرضٌ استثنائيَّة" 1958]
مرئيٌّ، لامرئيٌّ
مرئيٌّ، لامرئيٌّ
الحوذيُّ عند الأفق،
في أحضانِ الطَّريق يردِّدُ
فحوى كلامِ الجُزُر.
أنا الآخَرُ لا أمضي مع التَّيَّار،
مع العالَم الدَّائرِ من حولي، أقرأ
قصَّتي كخفيرٍ ليليٍّ
في سويعاتِ المطر. للسِّرِّ هوامشُ
غبطةٍ، مكائدُ، وخِلاباتٌ قويَّة.
حياتي، أيُّها الوحوش البسَّامون
ساكنو دروبي ومرائيَّ،
لا مقابضَ على أبوابها.
لن أتحضَّرَ للموتِ،
أعرف أصلَ الأشياء،
النِّهايةُ سطحٌ يسوحُ عليه
المُغِيرُ على ظلِّي.
أنا لا أعرف الظِّلال.
*
الجُندُ يبكون ليلاً
لا الصَّليبُ ولا الطُّفولة،
لا مطرقةُ الجلجثة، ولا الذِّكرى الملائكيَّة،
تكفي لتهشيمِ الحروب.
الجندُ يبكون ليلاً
قبلَ الموت، أقوياء هم، يسقطون
عند أقدامِ كلماتٍ لُقِّنوها
تحتَ أسلحةِ الحياة.
أرقامٌ عاشقةٌ، جُندٌ،
أسماءٌ مجهولةٌ هَطْلُ دموع.
*
إجابةٌ أخرى
لكن ما بُغيتكم يا قملَ المسيح؟
لم يطرأ شيءٌ على العالَم، والإنسانُ
لا زال يعانق المطرَ بأجنحته
الغرابيَّة ويزعقُ حُبَّاً وشذوذاً.
أنتم، لا يُعوِزكم دمُ الأبديَّة. وحدها النَّعجة
تتلوَّى لإيابها برأسٍ
عاريةٍ وعيونٍ تقطر ملحاً.
لكن لا شيء طرأ. والأخبارُ طحلُبٌ
على جدرانِ المدينة
عندَ أرخبيلٍ بعيدٍ بعيد.
* * *
[من مجموعة "خذْ واعطِ" 1966]
خذْ واعطِ
لا شيء تعطيني، لا شيء تُعطي،
أنتَ الذي تسمعني. دمُ الحروبِ
قد جفَّ،
المذلَّةُ رغبةٌ خالصة
ولا تستحثُّ أدنى إيماءةٍ
مِن خاطرٍ بشريٍّ،
خارجَ ميقاتِ الرَّحمة.
خذْ واعطِ. في صوتي
ثمَّة على الأقلِّ دلالةٌ
على بنيانٍ حيٍّ،
أمَّا في صوتِك، فثمَّة محارةٌ
ميِّتةٌ ونُواحٌ جَنَّازيٌّ.
*
لديَّ زهورٌ وفي الليل أدعو الحَوْرَ
ظِلِّي على جدارِ مُستشفىً آخر. لديَّ
زهورٌ وفي الليلِ
أدعو حَوْرَ الحديقةِ ودُلبَها،
مِن شجرٍ نفضيٍّ، أبيض الورقِ تقريباً،
لا أصفره. الرَّاهباتُ الإيرلنديَّاتُ
لا يتحدَّثن أبداً عن الموت، كأنَّ الرِّيح
تحرِّكهنَّ، لا يفتنهنَّ
أنَّهنَّ يافعاتٌ ورقيقات: نَذرٌ
ينفلتُ في صلواتٍ حامضة.
يُخيَّل إليَّ أنِّي نازحٌ
يأرَقُ مزمَّلاً بأغطيتِه،
مفترشاً الأرضَ بصمتٍ. لربَّما متُّ دوماً.
ولكنَّني أسمعُ بسرورٍ كلماتِ الحياة
التي أبداً لم أفهمها، ولئن استوقفتني
فرضيَّاتٌ طويلة. يقيناً لا مفرَّ لي؛
سأكون مخلصاً للحياة كما للموت
روحاً وجسداً
في كلِّ وِجهةٍ منتظَرَةٍ، ومنظورة.
تِباعاً يتخطَّاني شيءٌ ما
بخفَّةٍ، في هنيهاتِ التَّجلُّد:
الاختلافُ العبثيُّ المنسابُ
بين الموتِ ووهمِ
الوجيبِ، وجيبِ القلب.
*
زمنٌ غيرُ محسوس
في الحديقةِ تحمرُّ
شجرةُ البرتقال، والزَّمنُ غيرَ محسوسٍ
يتراقصُ على شكيرِها،
دولابُ الطَّاحونةِ يتصدَّعُ
من فيضِ الماء
ولكنَّه يواصل دورانَه
ويغلِّفُ لحظةً بلحظةٍ ماضيةٍ
أو آتية. مغايرٌ هو الزَّمنُ
على استدارةِ الثَّمرة؛ جامدٌ
على الجسدِ الذي يعكسُ الموتَ،
يتملَّصُ ملتوياً، يُحكِمُ القبضةَ
على العقل، ويدوِّنُ
دليلَ حياة.
اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي
الحواشي (كما وضعها المترجِم):
1- إيراتو (وتعني بالإغريقيَّة المعشوقة) هي بحسب الميثولوجيا الإغريقيَّة إحدى إلهات الإلهام التِّسع والمعنيَّة بالشِّعر الغزلي، وتصوَّر كامرأة تحمل قيثاراً. أمَّا أبوللو فهو إله الشَّمس، والشِّعر، والموسيقى، والرِّماية، وغير ذلك، وهو يمتلك جمالاً ورجولةً أبديَّين.
2- نهرٌ في جزيرة صقلية.
3- كأنَّ هذا السُّؤال جوابٌ على سؤالٍ آخر يؤنِّب الشُّعراء على صمتهم خلال سنوات الحرب العالميَّة الثَّانية.
4- الإلاحة هنا إلى الاحتلال النَّازي، فالقدم الغريبة كنايةٌ عن طغيان الجنود الألمان، والقلبُ كنايةٌ عن إيطاليَّا الرَّازحة تحت ذلك الاحتلال.
5- كانت جثامين القتلى تُترَك بلا دفنٍ كتحذيرٍ للمحرِّضين على العصيان والتَّمرُّد.
6- يشير إلى برودة مشاعر القائمين بتلك الأفعال الخالية من الإنسانيَّة.
7- يشبِّه بكاء الأطفال بثغاء الحِملان التي هي رمزٌ للبراءة والتَّضحية.
8- تستدعي هذه الصُّورة المشهدَ الإنجيليَّ للعذراء وهي تهرع صاعدةً الجلجثة نحو ابنها المصلوب.
9- تستلهم هذه العبارة المزمور 137 من مزامير داود الذي يحكي عن إعراض اليهود عن إنشاد المدائح لله وهم في الأرض الغريبة خلال فترة الأسرِ البابليِّ، معلِّقين قياثرهم على غصون شجر الصَّفصاف التي ترمز بدورِها إلى الحزن والبكاء.
10- صورة القياثر التي تتمايل واهنةً في الرِّيح هي كنايةٌ عن عجز (عُنَّةِ) الشِّعرِ أمامَ أهوالِ الحروب.
11- نوعٌ من الطُّيور ينتمي إلى رتبة المرعيَّات، ويفضِّل المستنقعات والمروج الرَّطبة.
12- حرفيَّاً: محرِّك الطَّائرة.